الاثنين، 28 ديسمبر 2015

درَّجَني الجَهرُ بالحَقِّ بقلم / محمد رشاد محمود


درَّجَني الجَهرُ بالحَقِّ ، فَزُجَّ بي إلى غَيابَةِ المُعتَقلاتِ في العراق قريبًا من مطلع عام 1979 وكنتُ في الخامسة والعشرين ، أتحرَّى أنوار باريس بقطار بغداد الدولي الذي كانَ يربطها بأوربا آنذاك ، وأسعى إلى تسَنُّم وظيفَةٍ أستَعينُ بها على الرِّحلَة ، وبعد أشهر من التنقلات رُحِّلتُ إلى سوريا ، فاحتجَزني سجن المخابرات ، وهو مبنًى تحت الأرض مُصمَت الجدران ، لا منفذ له إلا طاقةٌ في بابٍ يُطِلُّ منها السجَّان ليُدخِلَ طعامًا أو يسوقَ المُحتَجَز إلى التعذيب ، فإلا يَكُونا فلأمرين لا معدى عنهما .. سِجنٍ يطول إلى ما يشاء الله ، أو انعتاقٍ على غير ما يَرغَبُ السَّجينُ ، بالترحيل إلى خارج البِلاد، فلما استنفَد المحقِّقون حيَلَهم في محاولة الوقوف على تهمةٍ ، ما كنت لأدينَ بها نفسي ، رأت السلطات أن تطرَحَني في سجن القلعة - غرفة 5 أبراج ، حيث تزأرُ الأحجار الآخذة في السموق أن لا منجى لكَ مني أيها البائِس ، وعلى السطح قضبانُ نافذةٍ - لا كالنوافِذ - منبَطِحَةٍ إلى الأرض ، يُطِلُّ منها سجَّان مُدَجَّجٌ بالسلاح ، يترصَّدُك في كل لحظَةٍ من ليلٍ أو نهار ، ثُمَّ إنَّ دونَكَ بابًا من قضبان الصلب ، مِنْ دونِهِ باب ، يتأدَّى إلى سمعِكَ منه صليل مفاتيح السَّجَّان . 
في تلك الحال ، ذات يوم من سبتمبر من عام 1979 لمحتُ طائِرًا خِلتُهُ علَى فَنَنه فاستنطَقني قصيدةً ، منها هذه النفثات :-


 
طائـــــِـــرٌ رَفَّ وأُملــــــودٌ هَـــــــفَا
ذَكَّـــــرَانِـي بِنَـعـيـــــمٍ سَلَـــــــفـَا 
حَيْــــثُ ماجَ النـُّــورُ في أمشاجِـهِ 
مَسْبَــحٌ لِلـــرُّوحِ يُــذكي اللَّهَـــفَــا
لِحَبيــــبٍ غِيــــلَ عني لَـــمـــــحُهُ
بِشَبَـــــا القَيـــْـدِ وغَـمٍّ كَــــثـــفَــا
داهَمَ الـقَلــبَ فإنْ جَاشتْ بِــــــهِ
نَــزْعَةُ لِلـــرَّوْضِ والطَّيْـــرِ زَفَــــــــا
شَظَفٌ حَولِي وفـي عَيـشي كـذا
كِبَــــرُ الأنفُسِ يَـــدعـو الشَّظَفَـــا
مُوجَعٌ في القَيـْــدِ لا أضنَى لـَــــهُ
قَدرَ مـَــا أضْنَى لِقَيْـــــــدٍ دَنَّفـَــــا
من نفوسٍ فُحْـنَ فـي أجسادِهَــا
جِيَـفًا تَجفو الوَفَــا إمَّـــا ضَفَـــــــا
تَــدَّعي الفِطْنــَةَ والرُّشدُ لَهـَــــــا
قَبَــــسٌ في كَـــفِّ مِصــرٍ يُقتَـفَى
شَانَهَـــــا منِّي جَهِـــيرُ الـــرَّأيِ لا
يَرْتَشِي بِالمَالِ أو يَخْشَى الجَفَــا
لا أرومُ المَـــــالَ إنْ جـــاءَتْ بِــــهِ
نَــزْعَـــةٌ لِلـــغَيِّ فالــرُّشْدُ كَــفَى
لا يَبيـــــعُ الــحُرُّ بالكَــــوْنِ حِمًـى 
ضَمَّـــهُ مَهْــــدًا ويَـحوي الجَدَفـَـــا
مَوْطِني المَجْـدُ ومَجْلاهُ السَّنَــــــا
كانَ عَيـْـنَ الكَـوْنِ دَهْرًا إذْ غَـفَــــا
شَمسُهُ صَحــوٌ وعَـذبٌ نِيـــلُــــــهُ
وثَـــرَاهُ الخِصْـبُ يُنـْمي الشَّرَفَــــا
أَوغِـروا لِلــحَقِّ صَــدرًا فَالخَنَـــــــا
مُـوغَـرٌ مِنِّي ومِنْ طَبعي الوَفَـــــا
كَبِّلُــــوا الكَفَّيْــنِ فالــقَلــبُ بِــــلا
وازِعٍ حُــــرٌّ يَــــعَــافُ الصَّلَـــفـَــــا 
واعْصِبُـوا العَيْنَــيْنِ فالحَوْبـــاءُ مِنْ
جَذوَةِ النُّهْــــــيَةِ تَجلُو السُّدَفَـــــا
قَرَّعَ الحَمقَى تَناهَـــى جَهْــــلُهُم
أنَّ أسْرَ الحُـــرِّ يَبْـــرِي الصَّلَـفَـــــا
غِلـْـــتُ طَيَّ السِّجْنِ أزلًا وَهُــــمُ 
حُرُّهُـــــمْ في جَهْـــلِهِ قَد رَسَفَـا
(محمد رشاد محمود)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق